رغم إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 22 مارس 2019، الانتصار على تنظيم "داعش"، إلا أن مقتل زعيمه أبو بكر البغدادي، في 27 أكتوبر الجاري، والذي أعلنه أيضاً الرئيس ترامب، يشكل نقطة تحول بارزة في مسار المواجهة مع التنظيم، باعتبار أنها ستفرض تداعيات مباشرة سواء على تماسك التنظيم من الداخل، أو على نمط تفاعلاته مع المعطيات الجديدة التي ستنتج في مرحلة ما بعد البغدادي.
واللافت في هذا السياق أيضاً هو أن المكان الذي أُعلن أن البغدادي قتل فيه، وهو محافظة إدلب السورية بدا بدوره مثيراً لتساؤلات لا تقل أهمية، باعتبار أن النفوذ الأكبر في إدلب، حسب كثير من التقديرات، لا يعود إلى "داعش" وإنما إلى "جبهة النصرة" (تنظيم القاعدة) التي يمثل التنافس والتوتر سمة رئيسية في العلاقة بينهما، على نحو يوحي بأن وصول البغدادي إلى تلك المنطقة قد لا يكون منذ فترة طويلة، وربما اعتبرها التنظيم محطة انتقالية للوصول إلى مقر آخر يمكن السيطرة عليه وتعزيز إجراءات تأمينه بشكل أكبر، بعد أن فقد القسم الأكبر من المناطق التي سيطر عليها في الأعوام الخمسة الأخيرة.
اعتبارات عديدة:
يطرح الإعلان عن مقتل زعيم تنظيم "داعش" في هذا التوقيت دلالات عديدة، ترتبط بالانتقادات الداخلية التي تعرض لها الرئيس دونالد ترامب بسبب قراره سحب جزء من القوات الأمريكية الموجودة في سوريا، والتحذيرات التي أطلقتها اتجاهات عديدة من احتمال أن يدفع ذلك تنظيم "داعش" إلى محاولة ملء الفراغ الذي يمكن أن ينتج عن ذلك، بالتوازي مع تصاعد المخاوف من هروب عدد من قادة وكوادر التنظيم من مراكز الاحتجاز التي كانت تسيطر عليها ميليشيا قوات "سوريا الديمقراطية" الكردية (قسد)، على ضوء شن تركيا عمليتها العسكرية لتأسيس منطقة آمنة في شمال سوريا وإبعاد الميليشيا الكردية عن الحدود. وتتمثل أهم هذه الدلالات في:
1-احتواء احتمالات عودة التنظيم: كان لافتاً أن عدداً ليس قليلاً من المراقبين لم يستبعد أن يحاول تنظيم "داعش" العودة من جديد إلى الساحة، بعد مرحلة التراجع التي مر بها، مستغلاً في هذا السياق بعض التطورات الإقليمية التي طرأت في الفترة الأخيرة. وقد استندوا في هذا السياق إلى التسجيل الصوتي للبغدادي، الذي بثه التنظيم في 16 سبتمبر الفائت، وزعم فيه الأخير أن التنظيم لا يزال موجوداً رغم الضربات التي تعرض لها في مناطق مختلفة، داعياً أتباعه إلى "القيام بأفعال"، في إشارة منه إلى عناصر التنظيم لتنفيذ عمليات إرهابية جديدة، لاسيما في الدول الغربية.
وبمعنى آخر، فإن هذا التسجيل اعتبر بمثابة ضوء أخضر من جانب زعيم "داعش" للأفرع المختلفة التي أعلنت ولائها له بالتحرك في المناطق التي تتواجد بها، سواء لتوسيع نطاق نفوذها أو لتنفيذ عمليات نوعية يحاول من خلالها التنظيم تأكيد أن الهزائم التي منى بها في الفترة الماضية لم تؤدي إلى انهياره أو تراجعه بشكل كبير.
ومن هنا، تأتي أهمية الخطوة الأخيرة، التي تمثل رسالة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية بأنها معنية بمتابعة تطورات الحرب ضد التنظيم وأن إعلان الانتصار عليه لا يعني انتهاء المواجهة معه. ويتماهى ذلك، من دون شك، مع التصريحات التي أدلى بها قائد القوات المركزية الأمريكية في الشرق الأوسط الجنرال فرانك ماكينزي، في 13 يونيو 2019، التي قال فيها أن "داعش في أفغانستان ما زال يشكل تهديداً للمصالح الأمريكية"، مشيراً إلى أن "الجهود التي تبذلها الولايات المتحدة الأمريكية لمكافحة الإرهاب لم تحد بعد من طموحات داعش المتطرفة".
2- مواجهة الانتقادات الداخلية: لا تستبعد اتجاهات عديدة أن تعزز خطوة مقتل البغدادي من موقع الرئيس ترامب في مواجهة الانتقادات والضغوط الداخلية التي يتعرض لها، خاصة لجهة مقارنتها بخطوات نوعية اتخذها رؤساء أمريكيون سابقون فيما يتعلق بالمواجهة مع التنظيمات الإرهابية، مثل الرئيس السابق باراك أوباما الذي أعلن مقتل زعيم تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن، في 2 مايو 2011، وحظى عبر ذلك بتأييد واسع في الداخل، والرئيس الأسبق جورج دبليو بوش الذي أعلن مقتل زعيم تنظيم "القاعدة في بلاد الرافدين" أبو مصعب الزرقاوي، في 8 يونيو 2006، حيث اعتبر ذلك "تطوراً كبيراً ونوعياً من الناحية العملانية والرمزية".
3- تداعيات العملية التركية في شمال سوريا: ربما لا يمكن فصل توقيت الإعلان عن مقتل البغدادي عن المعطيات الجديدة التي فرضتها العملية العسكرية التركية، التي توقفت بمقتضى التفاهمات التي توصلت إليها كل من تركيا والولايات المتحدة الأمريكية، في 17 أكتوبر الجاري، خلال الزيارة التي قام بها نائب الرئيس الأمريكي مايك بنس إلى تركيا، باعتبار أن استمرار تلك العملية كان من الممكن أن ينتج تداعيات مختلفة ربما كنت ستؤثر على تنفيذ تلك الخطوة من الأساس.
وقد يكون ذلك أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت واشنطن بالفعل إلى التدخل من أجل وقف تلك العملية، التي أثارت انتقادات قوية من جانب الدول الغربية، باعتبار أنها يمكن أن تدعم مساعي "داعش" للعودة من جديد إلى الساحة وتهديد أمنها ومصالحها عبر دفع بعض العناصر التي هربت بالفعل من مراكز الاحتجاز الكردية إلى محاولة التسلل إلى الدول الأوروبية لتنفيذ عمليات إرهابية جديدة.
مرحلة جديدة:
إن ما سبق في مجمله يشير إلى أن مقتل البغدادي سوف يفرض معطيات جديدة سواء فيما يتعلق بالمسارات التي سوف تتجه إليها الحرب على التنظيمات الإرهابية، ولاسيما تنظيم "داعش"، أو فيما يتصل بمدى تماسك التنظيم من الداخل، باعتبار أن غياب البغدادي يمكن أن يؤدي إلى انقسامه لمجموعات فرعية أصغر، أو ما يرتبط بنمط تفاعلاته مع التنظيمات الإرهابية الأخرى، وفي مقدمتها تنظيم "القاعدة" الذي سوف يسعى، في الغالب، إلى استغلال تلك الخطوة في تعزيز نشاطه وتصدر خريطة تلك التنظيمات خلال المرحلة القادمة.